Menu

في الذكرى الـ (75) للنكبة: خطاب التسوية يندحرُ أمام نهج المقاومة واستراتيجيّتها في التحرير والعودة

عليان عليان

نشر في العدد (50) من مجلة الهدف الرقمية

في الذكرى الـ (75) للنكبة، ذكرى تشريد (900) ألف فلسطيني من ديارهم وممتلكاتهم جرّاء سياسة المجازر والتطهير العرقي، التي نفّذتها العصابات الصهيونيّة، وقيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في 15 مايو/أيار 1948، يقفُ الشعب الفلسطيني والأمّة العربيّة أمامها ليس من أجل البكاء على الأطلال وجلد الذات، إنّما لاستعراض المحطّات السياسيّة التي مرّت بها قضيّة اللاجئين الفلسطينيين سواءً في مرحلة النضال السياسيّ التعبويّ أو في مرحلة المقاومة المسلّحة، أو في مرحلة التراجع عن الثوابت الفلسطينيّة في ظلّ نهج التسوية، من أجل الإجابة على الأسئلة المتّصلة بالمشروع الوطني الفلسطيني، والأخطار التي تتهدّد حقّ العودة المقرون بنهج التحرير.
متغيّراتٌ لمصلحة القضيّة الفلسطينيّة:
وقبل استعراض المحطّات، التي مرّت بها قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين، منذ نكبة 1948 وحتّى اللحظة الراهنة، من الضروري أن نشير ابتداءً إلى أنّ إحياء ذكرى النكبة هذا العام، يتمُّ في ظلّ متغيّراتٍ وعواملَ دوليين، وعربيّة، وإقليميّة، وفلسطينيّة جديدة تنبئ بتحولات لصالح القضية والنضال الوطني الفلسطيني، ممثّلةً ببداية انكفاء الهيمنة الأمريكيّة وتبلور نظامٍ عالميٍّ متعدّد الأقطاب، وانعقاد قمّة جدّة، التي أعادت الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة بوصفها القضيّة المركزيّة للأمّة العربيّة، والاتفاق السعودي- الإيراني برعاية الحزب الشيوعي الصيني، الذي سينعكس بالإيجاب على قضايا المنطقة الرئيسيّة وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، لجهة خلخلة منظومة التطبيع الإبراهيمي.  
لكن المتغيّر الفلسطينيّ يظلُّ هو الأبرز في هذه المرحلة، لجهة صعود المقاومة، وانكفاء نهج التسوية، حيث جاءت معركة "ثأر الأحرار" لتفشل باقتدار محاولة الحكومة الأكثر فاشيةً ترميم ردعها المتآكل، ولتبني على مخرجات معركة سيف القدس ، في تعميق الأزمة الوجوديّة للكيان الصهيوني وللمستوطنين، ولتفتح آفاقًا جديدةً أمام استراتيجيّة التحرير والعودة.
نشوء النكبة:
لقد تعرّض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، منذ صدور قرار الأمم المتحدة رقم 194 في 11-12-1948، إلى أخطارٍ كبيرةٍ تستهدف شطبه، وقد أدّت الأمم المتّحدة آنذاك دورًا كبيرًا في ذلك من خلال (أوّلًا) تجاوزها للشرط الخاص بقبول (إسرائيل) عضوًا في الأمم المتحدة، ألا وهو تنفيذها القرار 194، ذلك الشرط الذي رفضت (إسرائيل) تنفيذه في مؤتمر لوزان، في آذار1949، الذي عقد لهذا الغرض وأوصى بعودة 900 ألف لاجئ فلسطيني. (وثانيًا) حذف الأمم المتحدة للقضية الفلسطينية، من جدول أعمال الأمم المتحدة آنذاك بوصفها قضيّة شعبٍ شُرّد من وطنه، وتحويل هذه القضية إلى قضية لاجئين إثر صدور قرار من الأمم المتحدة في 8 كانون أول 1949، بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين؛ إذ إنّه بالتنسيق بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والأمم المتحدة، تم حذف قضية فلسطين من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستبدالها ببند يحمل عنوان "التقرير السنوي للمفوض العام لوكالة غوث اللاجئين".
لقد مرّت قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين وحقّهم في العودة، بمحطّات عدّة منذ نشوء النكبة وحتى اللحظة الراهنة، وأبرز هذه المحطّات:
 1-المحطّة الأولى: محطّة رفض مشاريع التوطين التي طرحت مباشرةً بعد النكبة منذ نشوء النكبة، صدرت على امتداد فترة خمسينات القرن الماضي ومطلع الستينات سلسلة من المشاريع الأمريكيّة، ومن وكالة هيئة وإغاثة تشغيل اللاجئين الفلسطينيين  (الأونروا)  التي تستهدفُ توطين  اللاجئين الفلسطينيين، في الأقطار العربيّة المضيفة، لكنها فشلت جميعًا جرّاء تمسك اللاجئين بوطنهم التاريخي، وإصرارهم بعنادٍ على حق العودة الذي عبروا عنه بتمسّكهم بمفاتيح بيوتهم، وبانضمامهم للتنظيمات القوميّة (حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي) ولحركة فتح وبقية التنظيمات الفدائيّة الفلسطينيّة، التي أدت دورًا تعبويًّا ضدّ هذه المؤامرات، ورفعت شعارات تتصل بالتحرير والعودة سواءً من منظورٍ وطنيٍّ أو قوميّ.
المحطّة الثانية: محطّة الكفاح المسلّح الفلسطيني وربط العودة بالتحرير. لقد أعادت فصائل المقاومة الفلسطينيّة بعد حرب عام 1967 الاعتبار للقضية الفلسطينيّة، ليس بوصفها قضيّة لاجئين، بل بوصفها قضيّة تحرّرٍ وطني، يشكّل حق العودة جوهرها الرئيسي في إطار ربط هذا الحق بالتحرير، وفقًا لما جاء في الميثاق القومي الفلسطيني الذي صاغه الأستاذ أحمد الشقيري، إثر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وفي الميثاق الوطني الفلسطيني، بعد أن آلت قيادة المنظمة إلى فصائل المقاومة بعد حرب 1967.
وفي ضوء الحضور البارز للمقاومة ونهج الكفاح المسلح، تم قرع جرس الأمم المتحدة بقوةٍ لإعادة الاعتبار لحق العودة، حيث عدّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 2535 في ديسمبر/كانون أول 1969 "أن مشكلة اللاجئين العرب الفلسطينيين ناشئةٌ عن إنكار حقوقهم في وطنهم، الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، ولم تتوقف الأمور عند هذا القرار، بل صدرت قراراتٌ أخرى تؤكّد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، نذكر منها: القرار 2628 في تشرين ثاني 1970، القرار 2672 في كانون أول 1970، القرار 2787 في كانون أول 1971، القرار 2949 في كانون أول، وصولًا للقرار الأبرز، وهو قرار الأمم المتحدة الشهير رقم 3236 الصادر بتاريخ 22/11/1974، الذي جاء فيه في البند (2) ما يلي: "ونؤكد من جديد أيضًا حقّ الفلسطينيين غير القابل للتصرّف في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم الذين شرّدوا منها واقتلعوا منها وتطالب بإعادتهم". ومنذ ذلك التاريخ باتت قضية اللاجئين الفلسطينيين هي قضية حق عودة فردي وجماعي لكل الفلسطينيين خارج وطنهم.
المحطّة الثالثة: محطّة التراجع عن حقّ العودة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (1993). لم يجر توظيف صعود المقاومة في انتفاضتي الحجارة (1987- 1993) وانتفاضة الأقصى (2000-2006) من قبل القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير، تجاه استثمارهما، لإنجاز الحقوق الفلسطينيّة المشروعة ومن ضمنها "حق العودة، في السياق المرحلي المزعوم"، بل جرى استثمارها بشكلٍ معاكسٍ لاحقًا، تجاه القبول بحكم ذاتي محدود الصلاحية في اتفاقيات أوسلو 1993، وإلغاء مضمون الميثاق الفلسطيني في دورة المجلس الوطني – المهزلة عام 1996.
ويمكن التأريخ بشكلٍ رسميٍّ لبداية التراجع عن حق العودة، ومقايضة هذا الحق بفكرة الدولة المزعومة التي لم تتحقق، باتفاقيات أوسلو 1993، فالديباجة المتكررة في البرنامج السياسي الفلسطيني الذي أصطلح على تسميته "بالمرحلي" كانت تتضمنُ عبارة "الحق في العودة وتقرير المصير وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس" لكن مفردة "العودة" بدأت تتراجع بالتدريج، ويحل محلها مشاريع التوطين والتأهيل الواردة في خطة سري نسيبة- أيلون، وخطة خارطة الطريق (2003)، وفي وثيقة جنيف 2003 وفي مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، التي انطوت على نصٍّ مساومٍ على قضيّة حقّ العودة على نحو "حلّ عادل متفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقًا للقرار 194"؛ إذ إنّ عبارة "متفق عليه" تعني أن يخضع هذا الحق للمساومة، وأن يكون الكيان الصهيوني طرفًا في هذه المساومة وغيره من الأطراف، وفي المحصلة فإن كل المشاريع التفريطية كانت الوليد الطبيعي لاتفاقيات أوسلو، التي رحلت قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مفاوضات الحل النهائي، دون إسنادها بالقرارات ذات الصلة، خاصةً تلك القرارات التي صدرت في ضوء مناخ المقاومة بعد حرب 1967.
المحطّة الرابعة: محطّة الصراع ما بين نهج المقاومة ونهج التفريط والتنازلات، وهذه المرحلة بدأت بالتبلور بعد إجهاض انتفاضة الأقصى في مؤتمر مكافحة الإرهاب في شرم الشيخ بمشاركة السلطة الفلسطينيّة، ففصائل المقاومة الوطنيّة بدأت تراكم نضالاتها بالاستناد إلى حاضنةٍ شعبيّة، وإلى مناخٍ شعبي مقاوم، فكانت هبة الدهس والسكاكين عام 2015، وهبة إفشال البوابات الإلكترونية عام 2017، وهبة باب الرحمة المقدسية 2019، وهبة رمضان في عموم الضفة الفلسطينية عام 2021 في مناخ معركة سيف القدس التاريخية، وهذه الهبات وضعت موضوع الدولة والدولتين وراء ظهرها، وأعادت الصراع إلى مربّعه الأوّل "مربع التحرير والعودة – مربع الدولة الديمقراطيّة المرتبطة بحبلٍ سريٍّ مع القوميّة العربيّة والمشروع النهضويّ العربيّ...".
لقد انخرطت قيادة السلطة مبكرًا في مشروع مناهضة المقاومة، عبر نهج التنسيق الأمني المذل، حيث أعلن رئيس السلطة مرارًا وتكرارًا "بأنّه لم يسمح باندلاع انتفاضةٍ جديدة... وأنّ نهج التنسيق الأمني مقدّس"، وفي الوقت ذاته أعلنت قيادة السلطة تخلّيها عن حقّ العودة، وأنّها تقبل بعودة رمزيّة لبضعة مئات أو آلاف من اللاجئين الفلسطينيين، وفي الذاكرة (أوّلًا) تصريح أبو مازن في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 بشأن تنازله عن حقّ العودة إلى مدينته صفد، ما أثار في حينه ردود فعل شاجبه في الشارع الفلسطيني التي عدّت أنه "تخلّى عن حقّ العودة، وعن المقاومة من دون الحصول على شيء". وفي الذاكرة (ثانيًا): موقف رئيس السلطة الفلسطينية الرافض لحق العودة، الذي تمثّل في الخطاب الذي ألقاه في جلسة افتتاح ما يسمى بمنتدى الحرية والسلام الفلسطيني في مقرّ السلطة في مدينة رام الله، في 7 شباط – فبراير 2019، الذي ضم شخصيّات فلسطينية وإسرائيلية، وأعلن فيه "بأنه لن يسمح بعودة (5) ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم مكذبًا ادعاءات الإعلام الإسرائيلي بهذا الصدد... الخ.
 وأخيرًا:  لقد تراجع نهج التسوية الأوسلوي التصفوي، لصالح بداية تسيد نهج المقاومة وباتت قضية التحرير والعودة، هي المسألة الرئيسية في استراتيجية المقاومة بعد معركة سيف القدس التاريخية في مايو (أيار) 2021، خاصةً بعد مفاجأة الأهل في المحتلّ من وطننا في مناطق 1948، الذين صنعوا الفارق في المواجهة، وبات سؤال الوجود لدى الكيان الصهيوني، سؤال نهاية العمر الافتراضي للكيان والتفكير بالهجرة منه، هو الشغل الشاغل لدى مختلف المستويات الأمنية والسياسية والإعلامية، وذلك بعد أن باتت الضفة الفلسطينية مركز الثقل الأساسي للمقاومة، يتكامل فيها بشكلٍ شبه يومي  الفعل المقاوم لكتائب المقاومة، مع الفعل المقاوم للأسود المنفردة، وبعد أن باتت المقاومة تستند إلى ظهيرٍ استراتيجي ممثّلًا "بمحور المقاومة".
وجاءت مؤخّرًا معركة "ثأر الأحرار" في إطار غرفة العمليّات المشتركة، لتكسر مجدّدًا الردع الإسرائيلي، ولتشعل "حريقًا" في وعي المستوطنين، لإيصال رسالةٍ لهم بأنّ هذا الوطن هو الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني، وأنّه لا يقبل القسمة على اثنين، في إطار حل الدولتين الذي تتشبث فيه سلطة أوسلو، رغم نبذ الكيان الصهيوني له، كما جاءت هذه المعركة لتؤكد مجدّدًا (أوّلًا) عزلة وانزواء وانكشاف بؤس خيار أوسلو والتسوية عمومًا، ولتؤكّد (ثانيًا) أنّ نهج المقاومة هو النهج الذي تلتفُّ حوله جماهير الشعب الفلسطيني.